السجين
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
السجين
السجــــــــين
--------------------------------------------------------------------------------
السجين
داخل الزنزانة
تعودت إلى درجة التآلف مع العتمة المطبقة ، والرائحة الكريهة ، وجدران الإسمنت الباردة الملطخة ، في زنزانة انفرادية حيث حشرت بها منذ شهور ... سنوات ... . لم أعد قادرا على عد ما مر أو بقي من الزمن .
ليل دائم مسترسل ، يذكرني بعيش كائنات غير تابعة لنظامنا الشمسي . نهارها كليلها ووقتها ليل سرمدي بلا انقطاع .
ودعت الشمس ودفئها لما عصب جلادي عيني وكتم أنفاسي وساقني إلى المجهول . تساءلت مرارا عما اقترفت من جرم ، فلم أعثر على جواب . . سوى أني ( إرهابي ).
حرمت من الضوء والهواء والفضاء الشاسع ، فاستعضت عنها برحابة صدري واطمئنان نفسي . لم يعد هناك فرق بين أن أجوب مسالك وأزقة مدينتي أو أن أتجول داخل زنزانتي ، أصغي إلى زقزقة الطيور الأسيرة فوق أبراجها ، وأستمتع بخرير الجداول المحملة بسيول الدم المسفوح .
وأتأمل وردا متفتحا ذا لون قاني متموج ، تنبعث منه رائحة كريهة مقززة.
وهم جلادي حين ظن أني حبيس جدران الإسمنت ،هناك، وراء قضبانه الحديدية السميكة ، محكمة الإغلاق والإقفال .
بل إني طليق أرفرف في الفضاء .
أستعير أجنحة فراشة زاهية الألوان .
أنطلق في الفضاء ، تذروني الرياح ، فأجوب الحدود والمحيطات ، ثم أقطع الوهاد والفيافي والجبال .
أزور كل حين والدتي . أخفف من لوعتها على فراقي . أكفكف دمعها ، وأمسح بمنديلي المطرز المخروم المتهدل وجنتيها . أشكو لها ضعفي ونفاذ صبري .
تواسيني بقص بعض صور طفولتي الضائعة بين جمر الحرمان وقهر الاستبداد .
تذكي حماسي وتقوي جلدي .
أتوسد ركبتها اليمنى وأتتبع رنات نبضاها الواهنة الحزينة ، إلى أن أستسلم للنوم العميق .
كما أعرج خلسة على حجرة زوجتي . أسلم ، وأداعب طفلتي الرضيعة ، واطبع على وجنتيها قبلات الشوق والحنين .
نادرا ما أقبع داخل جحر الزنزانة البغيض .
وحين آوي إليه أشتغل باسترجاع التفاصيل المملة لذكرياتي .
عز علي بعدي عن قرطاسي وقلمي .
تراكمت أمامي الأحداث فشرعت في تدوين مذكراتي بحلمة السبابة على حائط زنزانتي .
ارتسمت كلها نقوشا محفورة في ذاكرتي ، تستعصي على المحو أو النسيان .
الوقت ينساب ببطء شديد ، تكسر تموجاته الهادئة الرتيبة إطلالة السجان من كوة المراقبة ، لإلقاء قطعة خبز محشوة بقليل من الأرز أو الذرة ، وأحيانا تصحبها قنينة صغيرة من الماء . إنها الوجبة اليتيمة في اليوم .
حياتي كلها ليل بهيم ، يتنازعني خلاله الموت والحياة . أسلم أمري وأستسلم .
استرق سمعي خطوات قادمة نحوي ، خلتها هواجس كسابقاتها .
هب ريح بارد كالسموم، وتسلل ضوء خافت لفني من كل جهاتي .
باب الزنزانة الحديدي يفتح ،
أسمع أحدهم يقول :
رائحة كريهة هنا ،
ألا زال هذا حيا ؟
دهسني بحذائه ، و خاطبني يسألني عن جرمي وفصيلتي ، تجاهلته كأني لم أفهم ، وأدرت وجي عنه ردا على إمعانه في إهانتي .
لم يبق لدي ما أعتز وأفخر به سوى إنسانيتي وكرامتي .
أشار إلى مرافقيه ،
نظفوه وعالجوه ليعرض بعد أيام على التحقيق .
لسعتني أضواء الشمس وكأني أولد من جديد .
قدماي لا تقوى على حملي .
أطرافي ترتجف وتحول دون تحكمي في حركاتي .
تكلم المحقق ، وأشار بكلتا يديه نحوي متسائلا :
أين وجدتم هذا ؟
عثرنا عليه في إحدى الزنزات المعدة للترميم والإصلاح ...
وكلما نعلم عنه أنه هناك منذ سنوات . ..
أطرق قليلا ثم أضاف :
تخلصوا منه حالا ،
عبئوه في كيس واطرحوه داخل وعاء القمامة بأحد شوارع مدينته ، لتنهشه كلابنا الضالة الموزعة هنا وهناك ...
--------------------------------------------------------------------------------
السجين
داخل الزنزانة
تعودت إلى درجة التآلف مع العتمة المطبقة ، والرائحة الكريهة ، وجدران الإسمنت الباردة الملطخة ، في زنزانة انفرادية حيث حشرت بها منذ شهور ... سنوات ... . لم أعد قادرا على عد ما مر أو بقي من الزمن .
ليل دائم مسترسل ، يذكرني بعيش كائنات غير تابعة لنظامنا الشمسي . نهارها كليلها ووقتها ليل سرمدي بلا انقطاع .
ودعت الشمس ودفئها لما عصب جلادي عيني وكتم أنفاسي وساقني إلى المجهول . تساءلت مرارا عما اقترفت من جرم ، فلم أعثر على جواب . . سوى أني ( إرهابي ).
حرمت من الضوء والهواء والفضاء الشاسع ، فاستعضت عنها برحابة صدري واطمئنان نفسي . لم يعد هناك فرق بين أن أجوب مسالك وأزقة مدينتي أو أن أتجول داخل زنزانتي ، أصغي إلى زقزقة الطيور الأسيرة فوق أبراجها ، وأستمتع بخرير الجداول المحملة بسيول الدم المسفوح .
وأتأمل وردا متفتحا ذا لون قاني متموج ، تنبعث منه رائحة كريهة مقززة.
وهم جلادي حين ظن أني حبيس جدران الإسمنت ،هناك، وراء قضبانه الحديدية السميكة ، محكمة الإغلاق والإقفال .
بل إني طليق أرفرف في الفضاء .
أستعير أجنحة فراشة زاهية الألوان .
أنطلق في الفضاء ، تذروني الرياح ، فأجوب الحدود والمحيطات ، ثم أقطع الوهاد والفيافي والجبال .
أزور كل حين والدتي . أخفف من لوعتها على فراقي . أكفكف دمعها ، وأمسح بمنديلي المطرز المخروم المتهدل وجنتيها . أشكو لها ضعفي ونفاذ صبري .
تواسيني بقص بعض صور طفولتي الضائعة بين جمر الحرمان وقهر الاستبداد .
تذكي حماسي وتقوي جلدي .
أتوسد ركبتها اليمنى وأتتبع رنات نبضاها الواهنة الحزينة ، إلى أن أستسلم للنوم العميق .
كما أعرج خلسة على حجرة زوجتي . أسلم ، وأداعب طفلتي الرضيعة ، واطبع على وجنتيها قبلات الشوق والحنين .
نادرا ما أقبع داخل جحر الزنزانة البغيض .
وحين آوي إليه أشتغل باسترجاع التفاصيل المملة لذكرياتي .
عز علي بعدي عن قرطاسي وقلمي .
تراكمت أمامي الأحداث فشرعت في تدوين مذكراتي بحلمة السبابة على حائط زنزانتي .
ارتسمت كلها نقوشا محفورة في ذاكرتي ، تستعصي على المحو أو النسيان .
الوقت ينساب ببطء شديد ، تكسر تموجاته الهادئة الرتيبة إطلالة السجان من كوة المراقبة ، لإلقاء قطعة خبز محشوة بقليل من الأرز أو الذرة ، وأحيانا تصحبها قنينة صغيرة من الماء . إنها الوجبة اليتيمة في اليوم .
حياتي كلها ليل بهيم ، يتنازعني خلاله الموت والحياة . أسلم أمري وأستسلم .
استرق سمعي خطوات قادمة نحوي ، خلتها هواجس كسابقاتها .
هب ريح بارد كالسموم، وتسلل ضوء خافت لفني من كل جهاتي .
باب الزنزانة الحديدي يفتح ،
أسمع أحدهم يقول :
رائحة كريهة هنا ،
ألا زال هذا حيا ؟
دهسني بحذائه ، و خاطبني يسألني عن جرمي وفصيلتي ، تجاهلته كأني لم أفهم ، وأدرت وجي عنه ردا على إمعانه في إهانتي .
لم يبق لدي ما أعتز وأفخر به سوى إنسانيتي وكرامتي .
أشار إلى مرافقيه ،
نظفوه وعالجوه ليعرض بعد أيام على التحقيق .
لسعتني أضواء الشمس وكأني أولد من جديد .
قدماي لا تقوى على حملي .
أطرافي ترتجف وتحول دون تحكمي في حركاتي .
تكلم المحقق ، وأشار بكلتا يديه نحوي متسائلا :
أين وجدتم هذا ؟
عثرنا عليه في إحدى الزنزات المعدة للترميم والإصلاح ...
وكلما نعلم عنه أنه هناك منذ سنوات . ..
أطرق قليلا ثم أضاف :
تخلصوا منه حالا ،
عبئوه في كيس واطرحوه داخل وعاء القمامة بأحد شوارع مدينته ، لتنهشه كلابنا الضالة الموزعة هنا وهناك ...
leila.mer- عدد المساهمات : 190
تاريخ التسجيل : 25/02/2009
العمر : 29
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى